سورة الأنبياء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)}
اعلم أنه تعالى بعد ذكره لإنعامه على إبراهيم وعلى لوط بأن نجاهما إلى الأرض المباركة أتبعه بذكر غيره من النعم، وإنما جمع بينهما لأن في كون لوط معه مع ما كان بينهما من القرابة والشركة في النبوة مزيد إنعام، ثم إنه سبحانه ذكر النعم التي أفاضها على إبراهيم عليه السلام ثم النعم التي أفاضها على لوط، أما الأول فمن وجوه؛ أحدها: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} واعلم أن النافلة العطية خاصة وكذلك النفل ويسمى الرجل الكثير العطايا نوفلاً، ثم للمفسرين هاهنا قولان: الأول: أنه هاهنا مصدر من وهبنا له مصدر من غير لفظه ولا فرق بين ذلك وبين قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ} هبة أي وهبناهما له عطية وفضلاً من غير أن يكون جزاء مستحقاً، وهذا قول مجاهد وعطاء.
والثاني: وهو قول أبي بن كعب وابن عباس وقتادة والفراء والزجاج: أن إبراهيم عليه السلام لما سأل الله ولداً قال: {رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} [الصافات: 100] فأجاب الله دعاءه: ووهب له إسحاق وأعطاه يعقوب من غير دعائه فكان ذلك: {نَافِلَةً} كالشيء المتطوع به من الآدميين فكأنه قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق} إجابة لدعائه: ووهبنا له يعقوب نافلة على ما سأل كالصلاة النافلة التي هي زيادة على الفرض وعلى هذا النافلة يعقوب خاصة.
والوجه الأول: أقرب لأنه تعالى جمع بينهما، ثم ذكر قوله: {نافلة} فإذا صلح أن يكون وصفاً لهما فهو أولى.
النعمة الثانية: قوله تعالى: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صالحين} أي وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنبياء مرسلين، هذا قول الضحاك وقال آخرون عاملين بطاعة الله عز وجل مجتنبين محارمه.
والوجه الثاني: أقرب لأن لفظ الصلاح يتناول الكل لأنه سبحانه قال بعد هذه الآية: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات} فلو حملنا الصلاح على النبوة لزم التكرار واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأن قوله؛ {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صالحين} يدل على أن ذلك الصلاح من قبله، أجاب الجبائي بأنه لو كان كذلك لما وصفهم بكونهم صالحين وبكونهم أئمة وبكونهم عابدين. ولما مدحهم بذلك، ولما أثنى عليهم، وإذا ثبت ذلك فلابد من التأويل وهو من وجهين:
الأول: أن يكون المراد أنه سبحانه آتاهم من لطفه وتوفيقه ما صلحوا به.
والثاني: أن يكون المراد أنه سماهم بذلك كما يقال: زيد فسق فلاناً وضلله وكفره إذا وصفه بذلك وكان مصدقاً عند الناس، وكما يقال في الحاكم: زكى فلاناً وعدله وجرحه إذا حكم بذلك.
واعلم أن هذه الوجوه مختلة، أما اعتمادهم على المدح والذم. فالجواب المعهود أن نعارضه بمسألتي الداعي والعلم، وأما الحمل على اللطف فباطل لأن فعل الإلطاف عام في المكلفين فلابد في هذا التخصيص من مزيد فائدة، وأيضاً فلأن قوله: جعلته صالحاً، كقوله جعلته متحركاً، فحمله على تحصيل شيء سوى الصلاح ترك للظاهر، وأما الحمل على التسمية فهو أيضاً مجاز أقصى ما في الباب أنه قد يصار إليه عند الضرورة في بعض المواضع وهاهنا لا ضرورة إلا أن يرجعوا مرة أخرى إلى فصل المدح والذم، فحينئذ نرجع أيضاً إلى مسألتي الداعي والعلم.
النعمة الثالثة: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} وفيه قولان:
أحدهما: أي جعلناهم أئمة يدعون الناس إلى دين الله تعالى والخيرات بأمرنا وإذننا.
الثاني: قول أبي مسلم أن هذه الإمامة هي النبوة، والأول أولى لئلا يلزم التكرار، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أمرين: أحدهما: على خلق الأفعال بقوله: {وجعلناهم أَئِمَّةً} وتقريره ما مضى.
والثاني: على أن الدعوة إلى الحق والمنع عن الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى لأن الأمر لو لم يكن معتبراً لما كان في قوله بأمرنا فائدة.
النعمة الرابعة: قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات} وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة وذلك من أعظم النعم على الأب، قال الزجاج: حذف الهاء من إقامة الصلاة لأن الإضافة عوض عنه، وقال غيره: الإقام والإقامة مصدر، قال أبو القاسم الأنصاري: الصلاة أشرف العبادات البدنية وشرعت لذكر الله تعالى، والزكاة أشرف العبادات المالية ومجموعهما التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله، واعلم أنه سبحانه وصفهم أولاً بالصلاح لأنه أول مراتب السائرين إلى الله تعالى ثم ترقى فوصفهم بالإمامة. ثم ترقى فوصفهم بالنبوة والوحي. وإذا كان الصلاح الذي هو العصمة أول مراتب النبوة دل ذلك على أن الأنبياء معصومون فإن المحروم عن أول المراتب أولى بأن يكون محروماً عن النهاية، ثم إنه سبحانه كما بين أصناف نعمه عليهم بين بعد ذلك اشتغالهم بعبوديته فقال: {وَكَانُواْ لَنَا عابدين} كأنه سبحانه وتعالى لما وفى بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام فهم أيضاً وفوا بعهد العبودية وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة.


{وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)}
القصة الثالثة: قصة لوط عليه السلام:
اعلم أنه سبحانه بعد بيان ما أنعم به على إبراهيم عليه السلام أتبعه بذكر نعمه على لوط عليه السلام لما جمع بينهما من قبل، وهاهنا مسألتان:
المسألة الأولى: في الواو في قوله: {وَلُوطاً} قولان:
أحدهما: وهو قول الزجاج أنه عطف على قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 73].
والثاني: قول أبي مسلم أنه عطف على قوله: {آتينا إبراهيم رُشْدَهُ} [الأنبياء: 51] ولا بد من ضمير في قوله: {وَلُوطاً} فكأنه قال وآتينا لوطاً فأضمر ذكره.
المسألة الثانية: في أصناف النعم وهي أربعة وجوه:
أحدها: الحكم أي الحكمة وهي التي يجب فعلها أو الفصل بين الخصوم وقيل هي النبوة.
وثانيها: العلم، واعلم أن إدخال التنوين عليهما يدل على علو شأن ذلك العلم وذلك الحكم.
وثالثها: قوله: {ونجيناه مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث} والمراد أهل القرية لأنهم هم الذين يعملون الخبائث دون نفس القرية ولأن الهلاك بهم نزل فنجاه الله تعالى من ذلك، ثم بين سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فاسقين} ما أراده بالخبائث، وأمرهم فيما كانوا يقدمون عليه ظاهر.
ورابعها: قوله: {وأدخلناه فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصالحين} وفي تفسير الرحمة قولان: الأول: أنه النبوة أي أنه لما كان صالحاً للنبوة أدخله الله في رحمته لكي يقوم بحقها عن مقاتل.
الثاني: أنه الثواب عن ابن عباس والضحاك، ويحتمل أن يقال: إنه عليه السلام لما آتاه الله الحكم والعلم وتخلص عن جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الإلهية وهي بحر لا ساحل له وهي الرحمة في الحقيقة.


{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)}
(القصة الرابعة، قصة نوح عليه السلام)
أما قوله تعالى: {إِذْ نادى مِن قَبْلُ} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لا شبهة في أن المراد من هذا النداء دعاؤه على قومه بالعذاب ويؤكده حكاية الله تعالى عنه ذلك تارة على الإجمال وهو قوله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنّي مَغْلُوبٌ فانتصر} [القمر: 10] وتارة على التفصيل وهو قوله: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] ويدل عليه أيضاً أن الله تعالى أجابه بقوله: {فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} وهذا الجواب يدل على أن الإنجاء المذكور فيه كان هو المطلوب في السؤال فدل هذا على أن نداءه ودعاءه كان بأن ينجيه مما يلحقه من جهتهم من ضروب الأذى بالتكذيب والرد عليه وبأن ينصره عليهم وأن يهلكهم. فلذلك قال بعده: {ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا}.
المسألة الثانية: أجمع المحققون على أن ذلك النداء كان بأمر الله تعالى لأنه لو لم يكن بأمره لم يؤمن أن يكون الصلاح أن لايجاب إليه فيصير ذلك سبباً لنقصان حال الأنبياء، ولأن الإقدام على أمثال هذه المطالب لو لم يكن بالأمر لكان ذلك مبالغة في الإضرار، وقال آخرون: إنه عليه السلام لم يكن مأذوناً له في ذلك.
وقال أبو أمامة: لم يتحسر أحد من خلق الله تعالى كحسرة آدم ونوح، فحسرة آدم على قبول وسوسة إبليس، وحسرة نوح على دعائه على قومه. فأوحى الله تعالى إليه أن لا تتحسر فإن دعوتك وافقت قدري.
أما قوله تعالى: {فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} فالمراد بالأهل هاهنا أهل دينه، وفي تفسير الكرب وجوه:
أحدها: أنه العذاب النازل بالكفار وهو الغرق وهو قول أكثر المفسرين.
وثانيها: أنه تكذيب قومه إياه وما لقي منهم من الأذى.
وثالثها: أنه مجموع الأمرين وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وهو الأقرب لأنه عليه السلام كان قد دعاهم إلى الله تعالى مدة طويلة وكان قد ينال منهم كل مكروه، وكان الغم يتزايد بسبب ذلك وعند إعلام الله تعالى إياه أنه يغرقهم وأمره باتخاذ الفلك كان أيضاً على غم وخوف من حيث لم يعلم من الذي يتخلص من الغرق ومن الذي يغرق فأزال الله تعالى عنه الكرب العظيم بأن خلصه من جميع ذلك وخلص جميع من آمن به معه.
أما قوله تعالى: {ونصرناه مِنَ القوم} فقراءة أبي بن كعب ونصرناه على القوم ثم قال المبرد: تقديره ونصرناه من مكروه القوم، وقال تعالى: {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} [غافر: 29] أي يعصمنا من عذابه، قال أبو عبيدة: من بمعنى على.
وقال صاحب الكشاف: إنه نصر الذي مطاوعه انتصر وسمعت هذلياً يدعو على سارق: اللهم انصرهم منه، أي اجعلهم منتصرين منه.
أما قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ} فالمعنى أنهم كانوا قوم سوء لأجل ردهم عليه وتكذيبهم له فأغرقناهم أجمعين، فبين ذلك الوجه الذي به خلصه منهم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10